صالح بن فريح البهلال
إن
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى
الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما
بعد؛ فإن من منة الله على عباده أن "جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا
من أهل العلم يَدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى،
ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من
ضالٍ تائه قد هَـدوه، يَـنْـفُـون عن كتاب الله تأويل الجاهلين، وتحريف
الغالين، وانتحال المبطلين" (1).
فهم ورثة الأنبياء في العلم، حيث لم يورثوا سواه.
وهم نجوم الدُّجـى يَهتدي بها السالكون إلى الله والدار الآخرة.
وهم مصابيح الظلام إذا استعجمت الأمور، يفتحون أبوابها، ويجلون غامضها، ويحسرون عن لثامها.
وهم برد الزمان إذا تلهبت مقايظه، واشتد أُواره.
فوجودهم
ضرورة للناس، وإلا ضل الناس وأضلوا، فقد أخرج البخاري (2) ومسلم (3) من
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم – يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من
العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس
رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
ولذا اهتم الناس بكتابة سير أهل العلم، واعتنوا بأقواهم وأحوالهم على مـر الأزمنة.
ولا شك أن إمعان النظر في سير هؤلاء العلماء، يعطينا فوائد حساناً منها:
أن
نعرف كيف ارتفع القوم، فنتأدب بآدابهم، ونستفيد من تجارِبهم، ونشحذ هممنا
عند ذكر قصصهم؛ فنركض إلى المعالي، ونرخص الأمور الغوالي، ونكسر الغرور
والعجب الذي يَحِلُّ في قلوب بعضنا إذا أتقن علماً، أو حقق فناً، أو حفظ
متناً، فتزكو النفس بذلك وتصفو، ويثوب إليها نشاطها وعزيمتها، قال ابن
الجوزي - رحمه الله -: (رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي
في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق، والنظر في سير السلف الصالحين؛
لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق
معانيها والمراد بها، وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق، وقد كان جماعة
من السلف يقصدون العبد الصالح؛ للنظر إلى سمته وهديه، لا لاقتباس علمه؛
وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته، فافهم هذا وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة
سير السلف والزهاد في الدنيا؛ ليكون سبباً لرقة قلبك، ولا يصلح العمل مع
قلة العلم، فهما في ضرب المثل كسائق وقائد، والنفس بينهما حرون، ومع جد
السائق والقائد ينقطع المنزل، ونعوذ بالله من الفتور) اهـ كلامه بتصرف
(4).
ألا
وإن الحديث في هذه الرسالة حديثٌ عن فردٍ من أولئك السادة الأعلام، ورجلٍ
من أولي العرفان، وفحلٍ من أرباب الاجتهاد، إنه حديثٌ عن رجل قد رسخت قدمه
في العلم، فكأنما هو والعلم قد قُدَّا من أديم واحد، بل كأنما قد شُقَّا
من نبعة واحدة، فهما أخوا صفاء، وهما أليفا مودة، إنه حديثٌ عن بحر
العلماء الزاخر، وبدرهم الزاهر؛ أبي عبد الله أحمد بن حنبل؛ إمام أهل
السنة، الذي انقطع للعلم، وأنفق فيه أوقاته، حتى استبطن دخائله، واستقصى
أطرافه، فمهر فيه وحذق.
هذا الإمام الذي صبَّر نفسه في ذات الله، فلم ترعه النوائب، ولم تنل من صبره الملمات.
هذا
الإمام الذي قال فيه الإمام الشافعي المتوفى سنة 204هـ: (هو إمامٌ في ثمان
خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن،
إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة) (5). وتأمل
أن الإمام الشافعي قال هذا الكلام، والإمام أحمد لم يجاوز الأربعين، فقد
توفي الشافعي وعمر أحمد أربعون.
هذا
الإمام الذي كتب له القبول في الأرض، فصار اسم الإمام مقروناً باسمه في
لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام احمد، هذا مذهب الإمام أحمد، ف- رحمه الله
- رحمة واسعة.
وهذا
أوان البدء في عرض سيرته، مكتفياً منها بخلاصتها، ومواطن العبرة والقدوة
فيها؛ لأن الوقت في بسطها يطول ويمتد، وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق،
والله المستعان.
أولاً: تاريخ مولده ووفاته:
ولد
الإمام أحمد في بغداد؛ في العشرين من شهر ربيع الأول؛ عام 164هـ، وتوفي في
بغداد؛ ضحوة يوم الجمعة؛ الثاني عشر من شهر ربيع الأول؛ عام 241هـ، وكان
عمره يوم مات سبعة وسبعين عاماً، وأحد عشر شهراً، واثنتين وعشرين ليلة.
قال
أبو الحسن ابن الزاغوني: (كشف قبر أحمد حين دفن الشريف أبو جعفر بن أبي
موسى إلى جانبه، فوجد كفنه صحيحا لم يَبْلَ، وجنبه لم يتغير، وذلك بعد
موته بمائتين وثلاثين سنة) (6).
وقال
الذهبي: (استفاض وثبت أن الغرق الكائن بعد العشرين وسبع مئة ببغداد، عامَ
على مقابر مقبرة أحمد، وأن الماء دخل في الدهليز علوَّ ذراع، ووقف بقدرة
الله، وبقيت الحـُصُر حول قبر الامام بغبارها، وكان ذلك آية) (7).
ثانياً: تميز الإمام أحمد في صغره:
لقد
نشأ الإمام أحمد يتيماً؛ إذ فقد أباه وعمره ثلاث سنين، فكفلته أمه، وكان
وحيد أبويه، لكن لم يضره ذلك اليتم، ولم يكلمْه ذلكم الفقد، فقد نشأ على
هيئة حسنة من الصلاح والألمعية، وإليكم ما يدل على هذا:
- يقول أبو بكر المَرُّوذي (:
(قال لي أبو عفيف -وذكر أحمد بن حنبل- فقال: كان في الكتاب معنا وهو
غليِّم، نعرف فضله، وكان الخليفة بالرَقَّة، فيكتب الناس بالرَقَّة، فيكتب
الناس إلى منازلهم الكتب -أي يكتب الجند والولاة إلى أهليهم الكتب- فيبعث
نساؤهم إلى المعلم: ابعث إلينا بأحمد بن حنبل؛ ليكتب لهم جواب كتبهم،
فيبعثه، فكان يجيء إليهن مطاطئ الرأس، فيكتب جوابهن، فربما أملين عليه
الشيء من المنكر، فلا يكتبه لهن) (9).
فهذه
الحادثة تدل على تبكير صلاحه وورعه؛ إذ أنه مع صغر سنه يغض بصره عن
الحرام، وإن كان من في سن مثله لا يبالي بالنساء، ولا يبالين به، بل
ويمتنع عن كتابة المنكر الذي يمليه النساء؛ رداً على خطاب أوليائهن.
جــرى نــاشــئاً للحــمد في كل حلْبةٍ *** فــجــاء مجيىء الســابق الــمــتمـــه
ولقد
كانت ألمعية هذا الإمام المبكرة، وصلاحه المتقدم يثير دهشة من يراه، فهذا
أبو سراج ابن خزيمة يقول: قال أبي: -وذكر أحمد، وجعل يعجب من أدبه، وحسن
طريقته- فقال ذات يوم: (أنا أنفق على ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن
يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل يتيم، انظر كيف يخرج؟!)
وجعل يتعجب! (10).
بلــغــت لعــشر مضـــت من سـِنِيـِّ *** ـك مـــا يــــبلـــغ الســــــيد الأشـــيـــب
فــهــمـــك فـــيهـــا جـــسام الأمـو *** ر وهـــم لـــداتـــك أن يـــلعـــــــبــــوا
لقد
كان هذا الإمام وهو في صغره دراك غايات، وطلاع ثنايا، فقد كان يحيي الليل،
وذلك فيما ذكره عنه إبراهيم بن شمَّاس (11)، فلم يكن -وهو غلام- ليدع هذه
السنة العظيمة، مما يدل على مدى التوفيق الإلهي الذي يحيط به، فلقد صدقت
فراسة الحافظ الهيثم بن جميل البغدادي في أحمد؛ إذ قال: (إن عاش هذا الفتى
سيكون حجة على أهل زمانه) (12).
فلله دره على فراسته هذه، فقد كان حجة على أهل زمانه ومن بعدهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ثالثاً: الصفات التي تميز بها الإمام أحمد:
لقد
كان هذا الإمام سباقاً للخيرات، من يقلب الطرف في سيرته يلق عظمة تتصاغر
عندها الهمم، وتملأ الصدور هيبة وإجلالاً؛ ولذا تتابعت كلمات الثناء على
هذا الإمام من أئمة عصره، ومن بعدهم، يشيدون بذكره، ويعددون مآثره،
ويعلنون مفاخره، فقال عنه ابن مهدي وهو أحد شيوخه: (كاد هذا الغلام أن
يكون إماماً في بطن أمه) (13).
وقال إبراهيم الحربي: (كان أحمد بن حنبل كأنه رجلٌ قد وفق للأدب، وسدد بالحلم، وملئ بالعلم) (14).
وقال
إبراهيم أيضاً-: (لقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً، وحراً وبرداً، وليلاً
ونهاراً، فما لقيته لقاةً في يوم إلا وهو زائدٌ عليه بالأمس) (15).
وقال
ابن مفلح في الآداب الشرعية: (ومن نظر في سيرة أبي عبد الله، وترجمة ما
سبق، وما يأتي، وما لم نذكره وجد همته في الخيرات والطاعات من أعلى الهمم،
وإنه يصدق عليه ما رواه الحاكم في تاريخه عن الأصمعي، أن دغفلاً دخل على
معاوية، فقال له أي بيت أفخر، قال: قول الشاعر:
لـه همـــم لا مــنتـــهـــى لكـــــبارهــــا *** وهمته الصـغــــرى أجـــل مــــن الدهــــر
لـه راحــــة لو أن مـــعشــار جــــودها *** على البر كان البر أندى من البحر) (16)
فلننظر جميعاً- عن أبرز مآثر هذا الإمام، وأظهر شمائله؛ لنقتدي بها؛ فإن التشبه بمثله فلاح:
أولاً: سعة علمه، وغزارته، وإمامته فيه:
لقد
اشتهر الإمام أحمد بالعلم، فإذا قيل في العلم: قال أحمد؛ هكذا مهملاً، فلا
ينصرف الذهن إلا إليه، فقد بلغ فيه منزلة لا تجارى، ورتبة لا تسامى،
فكأنما هو والعلم رضيعا لَبان، وثناء العلماء عليه بالعلم شائعٌ ذائعٌ،
فمنه قول إبراهيم الحربي: (رأيت أحمد بن حنبل، فرأيت كأن الله قد جمع له
علم الأولين، فمن كل صنف يقول ما شاء، ويمسك ما شاء) (17).
وقال
عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق: (ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، قيل له: وأي
شيءٍ بان لك من فضله، وعلمه على سائر من رأيت؟ قال: رجل سئل عن ستين ألف
مسألة، فأجاب فيها بأن قال: حدثنا، وأخبرنا) (18).
وقال أبو زرعة: (كان أحمد يحفظ ألف ألف، فقيل له وما يدريك؟ قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب).
قال
الذهبي: (فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك
المكرر، والأثر، وفتوى التابعي، وما فسر، ونحو ذلك، وإلا فالمتون المرفوعة
القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك) (19).
وقد
سبق ذكر ثناء الإمام الشافعي عليه، وأنه إمام في ثمان خصال، وذكر منها،
أنه: إمام في الحديث، وإمام في الفقه، وإمام في اللغة، و إمام في القرآن،
وإمام في السنة.
فيا ترى ما هي الأسباب في سبق هذا الإمام العلمي؟
إن المتأمل في سيرته يجد أسباباً خمسة ساعدت على تميزه في العلم، وإليك بيانها مع ذكر ما يدل عليها من سيرته:
السبب الأول: توفيق
الله لهذا الإمام وتأييده له، وهذا السبب الأكبر في نيل العظائم، وإدراك
الغايات النبيلة، فقد قال الإمام أحمد - رحمه الله - (إنما العلم مواهب
يؤتيه الله من أحب من خلقه) (20)، وقد نظم هذا المعنى العلامة ابن القيم،
فقال:
والعــلم يدخــل قلـــب كــــل موفـق *** مـــن غــير بواب ولا استـــئــــــذان
ويــرده المـــحــروم مـــن خــذلانه *** لا تــشقـــنا اللـــهـــم بالـــحرمــــان
وكلام هذين العالمين منطلق من قوله - تعالى -: يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ.. الآية [البقرة: 269].
قال مجاهد (أي القرآنَ والعلمَ والفقهَ) (21).
وليس معنى هذا أن يترك المرء فعل الأسباب، منتظراً بين عشية أو ضحاها أن ينزل عليه توفيق الله، فيكونَ حبرَ الأمة، وعلامةَ الزمان!
لا،
بل يتحتم عليه الطرقُ للباب، والأخذُ بالأسباب؛ فإن الله - سبحانه - قال:
.. وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ
مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ.. الآية
[النور: 21]، وقال: .. وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى
لِنَفْسِهِ... الآية [فاطر: 18].
والإمام أحمد - رحمه الله - قد طرق الباب، وأخذ بالأسباب، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله-.
السبب الثاني:
إخلاص هذا الإمام، وتجرده لله -نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً،
والإخلاص يكثر العمل القليل، ويباركه وينميه، ومن قرأ سيرة هذا الإمام لاح
له هذا الأمر، وهذه بعض النماذج من سيرته دالة على ذلك:
الأول:
محبته خمول الذكر وعدم الشهرة، فقد قال لعمه مرة: (يا عم، طوبى لمن أخمل
الله ذكره) (22)، ومرة أوصى أحد طلابه، فقال: (أخمل ذكرك، فإني قد بليت
بالشهرة) (23)، وكان - رحمه الله - إذا مشى في طريق يكره أن يتبعه أحد
(24).
الثاني:
قال - رحمه الله -: (إظهار المحبرة من الرياء) (25)، فعد هذا الإمام مجرد
إظهار المحبرة من الرياء، ولعله يقصد أن إظهارها ونحوها من الأشياء التي
هي شعار العلم، من البواعث على الرياء؛ والنفس لا تسلم من حظوظها إلا ما
رحم ربي، ولعل المحبرة في زمانهم كانت شعاراً للعلم.
الثالث:
قال المَرُّوذي: (كنت مع أبي عبد الله نحواً من أربعة أشهر بالعسكر، ولا
يدع قيام الليل وقراءة النهار، فما علمت بختمة ختمها، وكان يسر ذلك) (26).
الرابع:
وقال أبو حاتم: (كان أحمد إذا رأيته، تعلم أنه لا يظهر النسك، رأيت عليه
نعلاً لا يشبه نعال القراء، له رأس كبير معقَّد، وشراكه مُسْبَل، ورأيت
عليه إزاراً وجبة برد مخططة؛ أي لم يكن بزي القراء) (27).
فمن أراد بركة العلم، فليلزم الإخلاص فثمَّ العلم.
ومسألة
الإخلاص شديدة المطلب، وعرة المسلك، تحتاج إلى معالجة ومجاهدة، لكنَّ
الثمرة ذكرها ربنا في كتابه فقال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69].
السبب الثالث:
جِدُّه في طلب العلم وصبره على الأذى فيه، فالعلم ليس حلماً يرى في
المنام، ولا صيداً يرمى بالسهام، ولا مالاً يورث عن الآباء والأعمام، إنما
هو الجد والاهتمام، وهكذا فعل هذا الإمام، فقد طاف البلاد، وجاب الأمصار،
في طلب العلم، فقد رحل إلى الكوفة، والبصرة، وعبادان، والجزيرة، وواسط،
ومكة، والمدينة، ورحل ماشياً إلى صنعاء اليمن، ورحل ماشياً إلى طرسوس،
ورحل إلى الشام، واستفرغ في العلم وسعه، وسلك إليه كل سبيل، وركب فيه كل
صعب وذلول حتى نال ما نال.
قال
البغوي عن أحمد: (أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر)، وقال صالح ابنه:
(رأى رجل مع أبي محبرة، فقال له: يا أبا عبد الله أنت قد بلغت هذا المبلغ،
وأنت إمام المسلمين؟! فقال: معي المحبرة إلى المقبرة) (28).
وإذا كــانـــت الـــنفــوس كــبـــــاراً *** تــعبــت فــي مــرادهــا الأجـــــسام
السبب الرابع:
عمله بعلمه، ومن قلَّب النظر في سيرة الإمام أحمد وجد أنه إنما يطلب
العلم؛ لكي يعمل به؛ لا يطلبه لأجل مكاثرة، أو مفاخرة، أو لأجل دنيا
يصيبها، ومن أسباب ثبات العلم العمل به، وقد قال علي بن أبي طالب -رضي
الله عنه-: (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل) (29) وهناك نماذج
تدل على عمل الإمام أحمد بكل ما يتعلمه، سيأتي ذكرها -إن شاء الله- في
مبحث حرصه على العمل بالسنة.
السبب
الخامس: صلاحه، وصدق تقواه، والتقوى سبيل العلم النافع، والعمل الصالح،
ومصداق ذلك في كتاب الله في قوله - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ
العَظِيمِ [الأنفال: 29].
قال ابن جريج وابن زيد: (هداية ونوراً في قلوبكم، تفرقون به بين الحق والباطل) (30).
وقال
المَرُّوذي: (سمعت فتح بن أبي الفتح يقول لأبي عبد الله -يعني الإمام
أحمد- في مرضه الذي مات فيه: ادع الله أن يحسن الخلافة علينا بعدك؟ وقال
له: من نسأل بعدك؟
فقال: سل عبد الوهاب بن عبد الحكم. وأخبرني من كان حاضراً، أنه قال له: إنه ليس له اتساع في العلم؟!
فقال أبو عبد الله: إنه رجل صالح، مثله يوفق لإصابة الحق) (31).
فهذه كلمة عظيمة خرجت من رجل فحص العلم، فعجم عوده، وسبر غوره، لتُبِيْن بجلاء أن الصلاح سبيلٌ للتوفيق في العلم، وإصابة الحق فيه.
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
(1) اقتباس من الخطبة التي افتتح بها الإمام أحمد ـ - رحمه الله - ـ كتابه: (الرد على الزنادقة والجهمية).
(2) ح (100)
(3) ح (6877)
(4) صيد الخاطر ص 367
(5) طبقات ابن أبي يعلى 1/5
(6) تهذيب التهذيب 1 / 65
(7) سير أعلام النبلاء 11 / 231
(
قال الخطيب في تاريخ بغداد 4/423: (هو المقدَّم من أصحاب أحمد؛ لورعه
وفضله، وكان يأنس به، وينبسط إليه، وهو الذي تولى إغماضه لما مات، وغسله،
وقد روى عنه مسائل كثيرة).
(9) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص23
(10) المناقب لابن الجوزي ص 23
(11) سير أعلام النبلاء 11 / 228
(12) المناقب لابن الجوزي ص99
(13) مناقب ابن الجوزي ص93
(14) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 147
(15) طبقات الحنابلة 1 / 92
(16) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 29
(17) سير أعلام النبلاء 10 / 501
(18) طبقات الحنابلة 1 / 5
(19) سير أعلام النبلاء 11/187
(20) الآداب الشرعية 2/59 -60
(21) تفسير الطبري 5/9
(22) المناقب لابن الجوزي ص376
(23) المناقب لابن الجوزي ص377
(24) المناقب لابن الجوزي ص377
(25) الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 198
(26) المناقب لابن الجوزي ص268
(27) سير أعلام النبلاء 11 / 207
(28) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 213
(29) أخرجه عنه الخطيب البغدادي في اقتضاء القول العمل رقم (40).
(30)
ينظر روح المعاني للألوسي 5/196 فإن قيل: أليس الاستدلال بقوله - تعالى -:
واتقوا الله ويعلمكم الله.. أصرح في الدلالة؟ فالجواب عن هذا بأن يقال:
بأن هذه الآية طعن بعض أهل العلم في دلالتها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية
في الفتاوى 18/177 (وأكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة؛ لأنه لم يربط
الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط، فلم يقل (اتقوا الله يعلمكم
الله... )، ولا قال: (فيعلمكم...)، وإنما أتى بواو العطف، وليس من العطف
ما يقتضى أن الأول سبب الثاني.. ).
(31) الورع للمروذي ص7 .